في أيلول 2007، وبعد سيطرة حماس على نظام الحكم الداخلي لقطاع غزة، قامت الحكومة الإسرائيلية بالإعلان عن قطاع غزة “كيانًا مُعاديًا“. وقد تَبنّى المجلس الوزاري الإسرائيلي المُصغَّر للشؤون الأمنية سلسلة من العقوبات على عموم سكان القطاع، ومن ضمنها تقليص تزويدهم بالوقود والكهرباء، إلى جانب فرض تقييدات مُختلفة على دخول البضائع وخروجها. التقييدات المفروضة على تنقّل الأشخاص من قطاع غزة وإليه، والتي بدأت تُفرَض خلال الانتفاضة الأولى عام 1988، تفاقمت في سنوات التسعينيات واشتدت وطأتها مع تطبيق خطة فك الارتباط عام 2005.
مع الوقت، تراجعت إسرائيل عن بعض العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على قطاع غزة. فقد تم رفع التقييدات التي كانت مفروضة على تزويد القطاع بالكهرباء والوقود. وفي العام 2010، في أعقاب أحداث أسطول الحرية، تم السماح مُجددًا بإدخال معظم البضائع المدنية، بما يشمل البضائع التي كان من الممنوع إدخالها خلال سنوات لأسباب مجهولة، مثل الكُزبرة، أُصص الزراعة الفارغة والدُّمى. في اواخر العام 2014، وفي أعقاب العملية العسكرية “الجرف الصامد”، تم السماح، ولو بوتيرة خفيفة، بتسويق البضائع من قطاع غزة في الضفة الغربية، وفي بداية العام 2015، تم السماح بتسويق تلك البضائع في إسرائيل أيضًا. رغم التغييرات التي أُجريَت على التقييدات المفروضة على تنقّل البضائع من وإلى القطاع، فإن معظم التقييدات المفروضة على تنقّل الأشخاص لا زالت على حالها.
ثمانِ سنوات بعد أن فرضت الحكومة الإسرائيلية الإغلاق على قطاع غزة، قليلون هم من يُتاح لهم التنقّل بين القطاع والضفة الغربية. تفرض إسرائيل تقييدات على التنقّل بين شطرَي الأراضي الفلسطينية، وتقتصر ذلك على المرضى المصابون بأمراض خطيرة ومرافقيهم، إلى جانب قائمة من التُجَّار الذين يحملون تصاريح خاصة، و”الحالات الإنسانية الحرجة”. ولا تزال إسرائيل ترفض السماح، على سبيل المثال، للطلبة الجامعيين من قطاع غزة بالدراسة الأكاديمية في الضفة الغربية، حيث لا زال هذا المنع قائمًا منذ العام 2000. وهنالك، إضافة إلى هذا، تقييدات مفروضة على مُغادرة القطاع بهدف الاستكمالات المهنية، أو للمُشاركة في مؤتمرات مُختلفة وتنمية فرص اقتصادية في الضفة الغربية. أما أبناء العائلة الواحدة الذين يعيشون في شَطري الأراضي الفلسطينية، على بُعد ساعة سفر واحدة بالسيارة، فإن فُرَص لقائهم تتلخّص في الأعراس، الأتراح، أو حينما يكون أحد أبناء العائلة في وضع صحّي خطير، وحتى في تلك الحالة، فإن اللقاء يكون محكومًا بمدى قرب الصلة العائلية، ومُلزَمًا بالإجراءات البيروقراطية وخاضعًا لمزاج القائمين على تطبيق سياسة الإغلاق.
وبسبب مساحة قطاع غزة الضيّقة، فإن لفرض التقييدات على نقل البضائع تأثير فوري وواضح على مُعطيات ومؤشرات عامة كمُعدّلات البطالة، عدد المُحتاجين للمساعدات الإنسانية، مؤشرات النمو الاقتصادي، إضافة إلى تأثيرها على القدرة الشرائية للسكان المحليين. بالمقابل، فإن تأثير التقييدات على تنقّل الأشخاص، هو أمر ليس من السهل قياسه أو الإشارة إليه بوضوح. فلا أحد يُسَجِّل عدد المرات التي قام فيها الإخوة باحتضان أخواتهم، وما من جهة قادرة على تقدير عدد المرات المُتبقّية التي تستطيع بها امرأة من قطاع غزة لقاء والديها العجوزين في الضفة الغربية.

في أيلول 2013، بادرت جمعية “ﭼيشاه-مسلك” إلى إجراء استطلاع واسع، لدراسة العلاقات الأُسرية بين سكان قطاع غزة وسكان الضفة الغربية واسرائيل. وقد قام مستطلِعون من طرف المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحيّة بمقابلة 1,270 شخصًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ووجدوا أن لدى 26 بالمئة من سكان قطاع غزة أقاربًا في الضفة الغربية. وأن لدى سبعة بالمئة من سكان القطاع أقاربًا من الدرجة الأولى في الضفة. إضافة إلى ذلك، فإن لدى قرابة 15 بالمئة من سكان القطاع أقاربًا في إسرائيل وشرقيّ القدس. بالمُجمل، لدى قرابة 31 بالمئة من سكان قطاع غزة – وهو عدد يربو على النصف مليون شخص – أقارب في شرقي القدس، إسرائيل، أو الضفة الغربية. بحيث أن الغالبية العُظمى منهم غير قادرين على لقاء أبناء عائلتهم الذين يعيشون في هذه المناطق، وذلك كون أن معايير التنقّل محدودة وضيّقة جدًا. ويحدث بين الفترة والأخرى أن يحصل أحد الأحفاد على تصريح للقاء جدّته المُحتضرة؛ أو أن تخرج امرأة لحضور زواج أخيها. أما المعايير المعمول بها فهي لا تشمل أصلًا زيارات لتقديم تعازٍ، مثلًا، إلى أخ توفيت زوجته.
هنالك مئات الآلاف الذين يضطرون للاكتفاء بمحادثة هاتفية أو برؤية بعضهم البعض عبر كاميرات الإنترنت. وحتى هذا الأمر مُقيَّد وفقًا لجدول توزيع الكهرباء الشحيح في قطاع غزة.
حتى أواسط عام 2013، تمكّن سكان قطاع غزة ممن يملكون الإمكانية المادية من لقاء أقاربهم في مصر أو الأردن. وفي حزيران 2013 بدأت قوات الأمن المصرية بإغلاق معبر رفح، الواقع بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية، لفترات متقاربة، أما اليوم فيعمل المعبر فقط لأيام قليلة في الشهر. الأشخاص الذين ينجحون في تسجيل أسمائهم على لوائح الانتظار للتنقّل عبر معبر رفح، وهي لوائح يبلغ تعداد الأسماء فيها اليوم حوالي 12 الف اسم، لا يعرفون متى سيتمكنون من مغادرة القطاع، والأسوأ من ذلك، ليس لديهم أدنى فكرة متى سيُسمَح لهم بالعودة إلى منازلهم، في حال كان الأمر مُمكنًا أصلًا.
عدم إمكانية المشاركة في المناسبات العائلية، السعيدة منها أو الحزينة، تشير إلى المأساة التي يعيشها سكان القطاع. لكن ما يُعتَبر مفهومًا ضمنًا بالنسبة لكل إنسان يتمتع بالحرية – كزيارة نهاية الأسبوع لدى الجد والجدّة، مساعدة ابن عم في إصلاح دراجة هوائية أو اجتماع عائلي للتباحث في قضية مُستعصية – هي أمور غير موجودة حتى في أحلام أبناء الجيل الشاب، وغالبية سكان قطاع غزة، بالمناسبة، هم من الشباب الصغار.
العلاقات الأسرية لا تتلاشى، وكما تثبت سنوات الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية، فإن الشوق للقاء الأهل لا يخمد. إن سياسة الفصل، باعتبارها حيلة تهدف إلى تغيير السلطة في قطاع غزة، أو باعتبارها منظومة تسعى لخدمة أمن سكان إسرائيل، قد أثبتت فشلها. إن المعاناة الكبيرة التي يسببها العناد والإصرار الإسرائيلي على التمسّك بهذه السياسة ليس لها أي مُبرر، لا سياسي ولا أمني. والتسهيلات العشوائية التي تدخلها إسرائيل على هذه السياسة، هي خير دليل على فشل هذه السياسة.
في تفاصيل الحياة اليومية لأبناء العائلات المُشتَتة ما بين قطاع غزة والضفة الغربية المشاركين في هذا المشروع والذين وافقوا على منحنا إطلالة على حيواتهم، تكمن القصة الكبرى. إن حياة هؤلاء قد تبدو للناظر من بعيد مكتملة وعادية بقدر الإمكان؛ بيد أن الألم الدائم الناتج عن الحرمان من لمس الأهل، واحتضان الحفيد والحفيدة هو أمر يرافق العائلة وأفرادها طيلة الوقت.
تشكّلت هذه الحالات العينيّة للعائلات الثلاث المُشتَتَة، نتيجة انتقال النساء فيها للسكن إلى جانب أزواجهن في الجهة الأخرى من الأراضي الفلسطينية. الأمر الذي أجبرهن على الابتعاد عن عائلاتهن، اخوتهن واخواتهن وأبناء وبنات الاخوة والاخوات. تُضاعف التقييدات الاسرائيلية المفروضة على تنقّل الأشخاص وسفرهم من صعوبة الأوضاع التي تواجهها النساء على وجه الخصوص، لأنها تحيل خطوة انضمامهن لبيت الزوج الى رحلة باتجاه واحد.
[post id=”82,76,70″]