بتاريخ 24 حزيران أعلن وزير الإسكان الفلسطيني، مفيد حساينة، عن بدء مرحلة جديدة من إعمار قطاع غزة – ألا وهي بناء المنازل التي تم تدميرها بالكامل إبّان العملية العسكرية “الجرف الصامد”. أي بعد عشرة شهور منذ انتهاء الأعمال القتالية، ورغم الدمار الهائل والتجنّد الدولي، فقط الآن بدأ سكان قطاع غزة بخطوات التحضير لبناء البيت الأول من ضمن آلاف البيوت التي تم تدميرها بالكامل. فلماذا حدث هذا؟
آلية إعمار القطاع
قبل العملية العسكرية “الجرف الصامد” (انظر الجدول الزمني أدناه) قامت إسرائيل بفرض تقييدات صارمة على بيع مواد البناء للقطاع بادّعاء أن هذه المواد هي مواد “ثنائية الاستخدام”، أي مواد بالإمكان استخدامها أيضًا لأغراض عسكرية؛ وكان الادعاء الأساسي بأن حماس قد تقوم باستخدام مواد البناء المُقتناة من إسرائيل بهدف بناء التحصينات، ومنذ العام 2013 تقوم إسرائيل بإبداء قلقها من بناء الأنفاق التي من الممكن استخدامها لأهداف هجومية. جمعية “ﭼيشاه-مسلك” كانت ولا زالت ترفض هذا التعريف للمواد المدنية الأساسية كمواد البناء باعتبارها “ثنائية الاستخدام”، وبالتالي فإنه لا ينبغي فرض تقييدات شاملة عليها؛ خصوصًا وأن هذه التقييدات لم تثبت نفسها كوسيلة فعالة لمنع بناء الأنفاق. إن لهذه التقييدات على دخول مواد البناء، إلى جانب ردم أغلبية أنفاق التهريب من الجانب المصري، دور في الارتفاع الحاد في نسب البطالة في قطاع غزة، من 27,9% في الربع الثاني من العام 2013 إلى 40,8% في الربع الأول من العام 2014. وقد ساهم فرع البناء في 17% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاع غزة في الربع الثاني من العام 2013، أي قبل إغلاق الأنفاق، ووفر مصدر معيشة لأكثر من 24 ألف عامل في أواسط العام 2013، ومنذ ذلك الحين انهار هذا القطاع بشكل تام تقريبًا، ووفق معطيات البطالة للربع الثاني من هذا العام، فقط 4,2 بالمئة من العمال في قطاع غزة يعملون في قطاع البناء، اي ما يقارب 11 الف عامل، اما نسبة البطالة فوصلت خلال نفس الفترة الى 41,5 بالمئة.
بعد العملية العسكرية “الجرف الصامد”، وتماشيًا مع الإجماع الواسع حول ضرورة الإعمار السريع للقطاع، أعلنت الدوائر الأمنية الإسرائيلية بأن إسرائيل ستقوم منذ الآن بإتاحة دخول مواد البناء لغرض إعمار القطاع. وكان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق بيني ﭼـانتس من بين الذين عبّروا عن تفهّم الحاجة باتّباع أسلوب مختلف تجاه قطاع غزة، حين قال بأن كفّة الأمل في الميزان ينبغي أن ترجح على كفة اليأس. فإذا لم يحدث ذلك، وفقًا لادعائه، فإن الأعمال القتالية قد تتجدد. زيادة على ذلك، ومع الإعلان عن دعم إعادة الإعمار، اعترف الجيش الإسرائيلي بأن حماس قادرة على بناء أنفاق من دون الحاجة إلى استخدام الإسمنت.
وعلى ضوء القلق الذي أبدته إسرائيل من إمكانية نقل مواد البناء لغرض بناء الأنفاق، فقد تم الاتفاق على إقامة “آلية إعمار غزة”. الـ GRM (Gaza Reconstruction Mechanism) وهي آلية مشتركة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وتمت بوساطة ومراقبة منظمات الامم المتحدة، وتتيح المجال أمام إسرائيل بفرض الرقابة على استخدامات مواد البناء الداخلة إلى القطاع. وتُلزِم هذه المنظومة التجار والمقاولين في قطاع غزة بإثبات وجود حراسة وتأمين مشددين على المخازن التي تحفظ بها مواد البناء، كما تتيح الآلية لإسرائيل المصادقة مسبقا على المشاركين في كل مراحل التخطيط والتنفيذ، والمصادقة مسبقًا على الأشخاص المستحقين لمواد البناء.
من غير الممكن إقامة منظومة معقدة وصلفة كهذه من دون أن تتسبب في إبطاء عملية الإعمار ورفع تكلفتها. خلال العملية العسكرية الصيف الماضي تم تدمير ما يقارب 19 ألف وحدة سكنية بشكل تام أو ألحاق ضرر جسيم بها بحيث لم تعد صالحة للسكن؛ كما تضررت 113 ألف وحدة سكنية أخرى. ورغم الحاجة الماسة، مرحلة بناء المنازل المدمرة – بخلاف عملية إصلاح الأضرار – قد بدأت فقط في الآونة الأخيرة. وقد سبقها خلاف بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية حول المعادلة الصحيحة لحساب كميات مواد البناء المطلوبة لكل متر مربع من البناء. وفي نهاية حزيران، أي بعد قرابة عشرة شهور من وقف إطلاق النار، تم التوصل إلى حل وسط.
ليست هذه المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل باستخدام معادلة حسابية بهدف حساب المطلوب لإتاحة حياة مدنية أساسية في قطاع غزة. معادلات حسابية سابقة استخدمت لتحديد العدد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاجها سكان غزة للعيش، الأمر الذي شكّل، وبحق، مصدر إحراج لحكومة إسرائيل. وعلى العكس من معادلة “الخطوط الحمراء”، هذه المرة تم توضيح الهدف الأمني من وجود هذه المعادلة الحسابية، والتي تهدف إلى منع تسرّب مواد البناء لغرض بناء الأنفاق. ولكن تبين أن هذا النقص الخاضع للرقابة في مواد البناء الذي خُصصت المعادلة الحسابية لتحقيقه، كان أحد الأسباب لنشوء سوق سوداء لبيع مواد البناء في القطاع، كما يَعترف بالأمر أيضًا مكتب منسق أعمال الحكومة في المناطق. “إن هؤلاء الأشخاص الذين يحصلون على استحقاق للحصول على مواد البناء، فإنهم وبسبب الوضع القائم في قطاع غزة يفضلون بيع هذه المواد في السوق السوداء، وهنالك، للأسف سوق سوداء في قطاع غزة. ومن السوق السوداء، يشتري كل من لا ينبغي أن يشتري،” كما قال جنرال احتياط ﭼـريشاه يعكوبوﭭيتش، رئيس القسم المدني في مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، في مقابلة لبرنامج “ماباط شِني” الإخباري.