يتعرض الاقتصاد في قطاع غزة للقمع على مدار سنوات طويلة، بسبب القيود الشاملة على الحركة والتنقل التي فرضتها إسرائيل زمنًا طويلًا قبل انتشار وباء الكورونا. يختنق الاقتصاد اليوم تحت الإغلاق المزدوج – تشديد الإغلاق الخارجي الذي تفرضه إسرائيل إلى جانب الإغلاق الداخلي للحد من انتشار الوباء. ما هي الأضرار التي لحقت بالصناعات وسوق العمل المحلي، وما هي الإجراءات اللازمة للخروج من الأزمة.
24/09/2020
التالى
نهاية شهر آب، ومع تشخيص الحالات الأولى من انتقال العدوى بفيروس كورونا داخل غزّة، انضمّ سكّان القطاع إلى نُظُم تقييد الحركة التي يعيشها كثيرون حول العالم في هذه الفترة. أُغلقت المؤسسات العامّة والمدارس، وتعطّلت المتاجر والمصانع غير الحيويّة، وتوقّفت الحركة بين المحافظات. تفاقم القلق، الذي ظهر منذ بدء الأزمة العالميّة، اتجاه المعيشة والأمن الوظيفيّ والغذائيّ. وصلت غزّة هذه الأزمة بينما أوضاعها في الحضيض أصلًا، وتحت موجة من الإجراءات العقابيّة التي راكمتها إسرائيل فوق التقييدات المفروضة منذ شهر آذار”تخوّفًا من تفشّي كورونا”، وتحديدًا على ضوء نظام التصاريح الخانق، الذي يقلّص منذ سنوات أفق التطوّر الاقتصاديّ في غزّة.
لا جواب لمعظم طالبي العمل في القطاع. بلغت نسب البطالة في الربع الثاني من 2020، في بداية تفشّي الوباء عالميًا، 49 بالمئة. أكثر من ثلث العمّال يعملون في القطاع العام، حيث الرواتب أعلى بكثير، إلا أنّ هذه الرواتب تُدفع بشكلٍ جزئيّ منذ سنوات، وفي أحيانٍ كثيرة تُدفع بتأخير يصل إلى عدّة شهور. وينقسم هؤلاء بين مشغّلين كثر- السلطة الفلسطينيّة وسلطات القطاع الخاضعة لحماس، ويمس الصراع الداخلي الفلسطينيّ بهم. يصارع القطاع الخاص للبقاء. القوّة الشرائيّة في غزّة في سقوطٍ حر. عشيّة أزمة الكورونا مكّنت إسرائيل خروج بضعة آلاف من العمّال للعمل في إسرائيل بغطاء “تصاريح التجّار”، إلا أنّها أوقفت خروج التجّار عمومًا منذ شهر آذار.
يتأسس هذا الرصد على تقارير أصدرتها الهيئات الدوليّة والمحليّة في غزّة، وعلى مقابلات أجريناها مع مستثمرين بالصناعة، ومع تجّار وعمّال وخبراء اقتصاد في القطاع. برز في كل هذه المحادثات التشخيص بأنّ الأضرار في سوق العمل المحليّ، في القوّة الشرائيّة للسكّان ومجالات الصناعة المختلفة في غزّة، تفاقمت جدًا في الشهور الأخيرة.
جزء 1
سوق العمل
سوق العمل
القطاع العام
حتى نهاية الربع الثاني من هذا العام، يعمل نحو 40 بالمئة من العمّال في قطاع غزّة في القطاع العام، لدى السلطة الفلسطينيّة أو لدى سلطات حماس في القطاع. يتلقّى هؤلاء منذ وقت طويل رواتب جزئيّة، بتأخيرٍ أغلب الأحيان. في نيسان 2017 أعلنت السلطة عن تقليص بنسبة 30 بالمئة من رواتب 60 ألف عامل في قطاع غزّة، وأُحيل بعضهم للتقاعد المبكّر. برّرت السلطة هذه الخطوة بأنّها تقليصات ضروريّة للميزانيّة، إنما يظهر بالحقيقة أنها خطوات اتُخذت أيضًا للضغط على حكومة حماس في غزّة.
في تمّوز 2020، دفعت السلطة لموظّفيها نحو 65 بالمئة من مجمل رواتب شهر أيّار، ودفعت حكومة حماس 50 بالمئة من مجمل رواتب شهر حزيران. بحسب الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطيني، معدّل أجر الموظّف في القطاع العام 96.4 شيكل لليوم، فيما يكسب عمّال القطاع الخاص في غزّة معدّل 31.9 شيكل لليوم.
القطاع الخاص
في آذار 2020، مع تفشّي وباء كورونا في إسرائيل، اتّخذت السلطات في غزّة خطوات وقائيّة استمرّت حتّى نهاية نيسان وبداية أيّار، وتضمّنت إغلاق المطاعم، المقاهي، الأسواق في المدن والمجمّعات التجاريّة، المدارس ورياض الأطفال، قاعات الأفراح ودور العبادة. أغلقت مصر معبر رفح وتوقفت الحركة في معبر إيرز، باستثناء الحالات الطبيّة الحرجة، وظلّ الأمر على حاله بالنسبة لإسرائيل نصف عامٍ بعد ذلك. يقدّر خضر شنيورة، مدير الاتحاد العام للصناعات، أن القطاع الخاص تكبّد في الفترة الأولى من الإغلاق داخل القطاع- آذار، نيسان، أيّار- خسائر بنحو 26 مليون شيكل.
نشرت منظّمة العمل الدوليّة (ILO) في أيّار تقريرًا يطالب الحكومات باتخاذ خطوات عاجلة وواسعة لحماية العمّال وأماكن العمل، وشدّد التقرير على ضرورة نمو وترميم اقتصاد القطاع. وجاء في التقرير أن الأمر يتعلّق، ضمن مسببات كثيرة، بقدرة الإنتاج ونشاط القطاع الخاص بشكلٍ يمكّن من منافسة الأسواق الإقليميّة والعالميّة، وتوسيع تصدير البضائع والخدمات. في هذا المجال أيضًا، يرتبط قطاع غزّة بإسرائيل، والتي تحكم أي المنتجات ستدخل إلى غزّة – المواد الخام، المعدّات الحيويّة- وأي بضائع تخرج منها، إن خرجت أصلًا، كميّتها ووجهتها.
“قطاع السياحة من القطاعات الاقتصاديّة الأكثر تضرّرًا” يقول د. ماهر الطبّاع، مدير العلاقات العامة بغرفة التجارة والصناعة في قطاع غزّة. “مُنعت إقامة المناسبات الاجتماعيّة، ولذلك أغلقت صالات المؤتمرات والأفراح. لا يمكن للأجانب الدخول إلى غزّة، فأغلقنا الفنادق،” يقول. “أعتقد أنه من الواضح أنّ في هذه المرحلة لا مجال للحديث عن سياحة داخليّة. ببساطة، لا يستطيع سكّان غزّة، الذين يعانون من الفقر والنقص حتّى في الأيّام العاديّة، أن يسمحوا لأنفسهم بمثل هذه المصروفات”. بلغ عدد الذين خسروا مكان عملهم، مصدر دخلهم، في هذا القطاع منذ بداية الأزمة 8,700 عاملًا.
تكبّد قطاع المواصلات والنقل في غزّة خسارة جسيمة أيضًا. في العام 2019 سُجلت 2,612 مركبة نقل وسيارة أجرى، ونحو 2,700 سائقًا وسائقة. يُقدّر أن 80 بالمئة من العاملين في هذا القطاع تضرّروا منذ بداية أزمة الكورونا.
تضرّر كذلك مجال البناء- ومن ضمنه صناعات الخشب، الورق، الصلب، الألومنيوم ومواد البناء- والذي يشغّل بالعادة عشرات آلاف العمّال. في العام 2019، بلغ الإنتاج في هذا القطاع 27 بالمئة من قدرته الكاملة. في الربع الأوّل من العام 2020، انخفض الإنتاج إلى 11.4 بالمئة. في تقرير اتحاد الصناعات الإنشائيّة في قطاع غزّة، يُفسّر الهبوط بانهيار قوّة الشراء في غزّة. يشتري السكّان حاليًا منتجات ضروريّة فقط، مثل المنتوجات الغذائيّة، مواد التنظيف والتعقيم، الكمّامات والأدوية. بحسب اتحاد الصناعات الانشائيّة في غزّة، خسر نحو 10 آلاف من العاملين في القطاع مكان عملهم منذ بداية الأزمة منتصف آذار.
شهد قطاع النسيج في غزة تقلبات خلال هذه الفترة
بحسب تقرير اتحاد الصناعات الخشبية والأثاث الفلسطيني، خسر ما يقارب نصف العاملين في المجال، نحو 2,600 إنسان، أماكن عملهم. أُغلق 150 مصنعًا لإنتاج الأثاث. لا تبلغ القدرة الانتاجيّة لهذا القطاع اليوم إلا 5 بالمئة فقط مما كانت عليه قبل تشديد الإغلاق في 2007.
أدّت الأزمة الحاليّة إلى انهيار بنسبة 70 بالمئة في إنتاج الأغذية. يُظهر بحث أجراه اتحاد صناعات الأغذية في غزّة في 65 مصنعًا في محافظات مختلفة في القطاع أنّ 1,300 عاملًا في هذه المصانع خسروا مكان عملهم. بحسب البحث، فإن ّ عمق الضرر في هذا القطاع جزئيّ بسبب ارتفاع الاستهلاك المحليّ للأغذية المجفّفة والمحفوظة، فاستمرّت بعض المصانع في عملها، بل ورفع جزء منهم الإنتاج. يقدّر البحث، الذي صدر في بداية نيسان، أن 39 بالمئة من العاملين في المجال خسروا مكان عملهم منذ بداية الأزمة (مقارنةً مع عددهم في نهاية 2019).
يتقاضى نحو 80 بالمئة من العاملين في القطاع الخاص في غزّة أقل من الحد الأدنى للأجور، وهو 1,450 شيكل شهريًا.
ويقدر تقرير البنك الدولي الصادر في نيسان 2019 أن المجالات المتضرّرة بالأساس من سياسات مراقبة/منع الدخول المواد التي تسمّيها إسرائيل “ثنائيّة الاستخدام” إلى غزّة هي مجالات الصناعة، الزراعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ويقدّر التقرير بأنّ تخفيف هذه السياسة سيؤدّي إلى نمو بنسبة 11 بالمئة من اقتصاد غزّة.
بحسب الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطيني فإن 53 بالمئة من سكّان القطاع، أكثر من مليون طفل، مُسن، رجال ونساء، يعيشون تحت خط الفقر ويعانون من انعدام الأمن الغذائيّ، 34 بالمئة يعيشون فقرًا مدقعًا. وقدّر تقرير البنك الدوليّ الصادر في حزيران 2020 أنّ نسبة الفقر في غزّة ستصل إلى 64 بالمئة. اليوم، نحو 80 بالمئة من السكّان يعتمدون على إغاثةٍ إنسانيّة، ويُمكن الاستدلال على الأوضاع الصعبة التي يعاني منها سكّان غزّة من خلال انهيار أسعار الفاكهة والخضار في السوق. للمقارنة، بيعت البندورة في شهور الصيف في غزّة بشيكل واحد للكيلو. مقابل سعر كيلو البندورة في إسرائيل كان أعلى بـ 350 بالمئة؛ الباذنجان، مثلًا، بيع بشيكل للكيلو في غزّة، مقابل سعر أعلى بأربع مرّات في إسرائيل.
بالإضافة لعمل الأونروا في مخيّمات اللاجئين، والذي يوفّر مواد غذائيّة أساسيّة، فإن أكثر من 100 ألف عائلة في غزّة تعتمد على منح دعم قطريّة للقطاع بقيمة مئة دولار للعائلة.
جزء 3
تلخيص وتوصيات
تلخيص وتوصيات
التقييدات التي تفرضها إسرائيل بالعادة على الحركة والتنقل من وإلى قطاع غزّة تقلّص الإمكانيّات الاقتصاديّة للقطاع. استمرار هذه التقييدات في هذه الفترة يؤدّي إلى تفاقم هذا الوضع ومراكمة المخاطر على السكّان. انطلاقًا من سيطرة إسرائيل الواضحة على جوانب كثيرة من الحياة في القطاع، وخاصةً السيطرة المطلقة على معابر البضائع والأشخاص بينها وبين غزّة، تتحمّل إسرائيل مسؤوليّة اتخاذ خطوات تمكّن اقتصاد غزّة من مواجهة الأزمة، وإيجاد حلول للنموّ والتطوّر.
على إسرائيل أن تتخذ فورًا سلسلة من الخطوات التي من شأنها أن تمكّن أوسع نشاط اقتصاديّ في غزّة:
• على إسرائيل أن تمتنع عن الإجراءات العقابيّة، والتي تُتخذ للمس المتعمّد بالأبرياء وبنشاط المساعدات الإنسانيّة والاقتصاديّة في غزّة.
• على إسرائيل تجهيز، نشر وتطبيق برنامج واضح يعترف بمسؤوليّتها عن تلبية احتياجات سكّان قطاع غزّة وحماية حقوقهم.
• على إسرائيل رفع التقييدات المفروضة على حركة التجّار، العمّال والبضائع التي فُرضت حتّى قبل تفشي أزمة الكورونا، وتوسيع إمكانيّات الكثيرين لإيجاد العمل في إسرائيل والضفّة الغربيّة.
• على إسرائيل أن ترفع كافة التقييدات التعسفيّة التي فُرضت على حركة الناس منذ آذار 2020. على إسرائيل والسلطات الفلسطينيّة أن يجدوا طرق لحماية قدرة المواطنين على الاسترزاق مع الحفاظ على الصحّة العامة.
• على إسرائيل أن تعمل فورًا لتمكين عمل وتطوّر صناعات الأغذية في قطاع غزّة، بما في ذلك رفع المنع الفعليّ عن تسويق الأغذية في الضفّة الغربيّة وإسرائيل.
• على إسرائيل أن تمكّن دخول المواد الخام والمعدّات المطلوبة لنشاط اقتصادي متواصل، وذلك بالتشديد على المجالات التي تؤمّن الغذاء للمجتمع – الصيد والزراعة- وحماية من يسترزقون في البحر أو في المناطق المحاذية للسياج.
• على إسرائيل أن تطوّر منظومة تمكّن التجّار من لقاء الزبائن والمزوّدين، وذلك من أجل مواصلة العلاقات التجاريّة الجارية وإتمام التحويلات المالية.
بموجب تعليمات القانون، تعلن “ﭼيشاه – مسلك” بكل فخر، أنه نتيجة للتعاون مع دول صديقة ومؤسسات دوليّة تعمل على تعزيز حقوق الإنسان، غالبية التمويل لنشاطاتنا يأتي من “كيانات سياسيّة أجنبيّة”.